نواع القلوب ودرجاتها بين التدسية والتزكية كما بينتها النصوص
القلب في سبيل إصلاحه يترقى درجات، فيتحول من صفة مذمومة
إلى صفة محمودة، ويكون على حال ويصير إلى حال أعلى وأجمل وأزكى، وقد نبهت
الآيات إلى أنواع القلوب الفاسدة التي يجب أن يتطهر القلب من أمراضها
ويتزكى، حتى يصل إلى القلب السليم:
وهو الذي يكون مع كفره وفساده وانحرافه؛ يكون حريصاً على
إفساد الآخرين وإضلالهم وإدخالهم في الكفر، وقد ذكر النبي صلى الله عليه
وسلم هذا القلب في حديث تكلم فيه عن الشر والخير في هذه الأمة، فذكر مرحلة
يكون فيها دَخَنٌ([1]) مع الخير، فسئل : ما دخنه؟ قال: « قوم لا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس »([2])، وأصحاب هذه القلوب سماهم الله تعالى شياطين الإنس، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾
[الأنعام: 112].
وتزكية هذا القلب بتحويل صاحبه وجهته من حب الباطل والشر والأذى والإفساد إلى حب الحق والخير والإحسان والإصلاح.
ـ القلب الذي أغلقت الهداية عنه: كالقلب المختوم عليه : قال تعالى :
﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾، والقلب المقفَّل عليه : قال تعالى : ﴿ أم على قلوب أقفالها ﴾، والقلب المطبوع عليه: قال تعالى: ﴿ طبع الله على قلوبهم ﴾.وتزكية هذه القلوب تكون بمعالجة السبب الذي كان سبب الختم والطبع والقفل، والتوبة منه.والأسباب التي تسبب هذه الأمور هي من الأمور الخطيرة الكبيرة التي تتنافى مع الإيمان،
|
من مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه » |
ومن مثل ما ورد في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35].
ومن مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه »([3]).
وهو الذي لا يستجيب للحق ولا يبحث عنه، قال تعالى: ﴿
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ
اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36]، فقوله: ﴿ والموتى ﴾ أي
أصحاب القلوب الميتة، وقد ذكرهم في مقابل الذين يسمعون الحق فيستجيبون له.
قال تعالى: ﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾، والآية تشعر أن بعض الناس لا قلب له، ولكن هذا غير مقصود، إذ كل إنسان له قلب([4])،
لكن الآية تنبه إلى أن القلب يكون ميتاً حينما لا يستعمله صاحبه استعمالاً
صحيحاً، فلا يوجهه نحو الحق، ولا يميل به نحو الحق والخير، فهو والذي لا
قلب له سواء، فالنتيجة واحدة.
وتزكية هذا القلب تكون باستعمال القلب والانتباه إلى وجوده، وتوجيه القلب الوجهة الصحيحة نحو الإيمان والحق والخير، وإصلاح خواطره.
قال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ
مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة:10]،
وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب:
12]، وحيثما ذكر الذين في قلوبهم مرض في القرآن فالمقصود بهم أصحاب الأمراض
القلبية التي تخرج الإنسان عن الإيمان، لا الأمراض التي قد تجتمع مع
الإيمان أو الإسلام، فتكون سبباً في نقص الإيمان لا في نفيه كله.
وتزكية هذا القلب بمعالجة المرض الذي فيه، كالكبر على الله
وأحكامه، وكحب غير الله أكثر من حب الله، وكالرياء والعمل لأجل الخلق لا
لله، وكالتعلق بالدنيا وجعلِ شهواتها هي المقصود والهدف في الحياة، فكل مرض
له علاجه كما سيأتي.
قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وتقلب القلب ينشأ عنه التردد
في الحقائق كما بينت الآية ﴿ كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ فلما كذبوا
وتشككوا بالحق تقلب القلب والفؤاد.
قال تعالى: ﴿ لاهية قلوبهم ﴾، وقال سبحانه: ﴿ بل قلوبهم في غمرة من هذا ﴾، والقلب إذا كان عارفاً بالحقائق عالماً بها، ثم تجاهلها بالانشغال عنها يكون غافلاً. |
تزكية القلب بتذكر الحقائق التي يعلَمُها، سواء تذكرها صاحب القلب من خلال القرآن أو التفكر أو الذكر |
وتزكية هذا القلب تكون بإزالة التردد من خلال التحقق من
الحقائق والرجوع إلى الأدلة والبراهين، والوقوف عند الحق إذا وصل إليه،
والبناء على الحقائق التي عرفها القلب لا على الشهوات والنزغات والميول.
قال تعالى: ﴿ لاهية قلوبهم ﴾، وقال سبحانه: ﴿ بل قلوبهم في
غمرة من هذا ﴾، والقلب إذا كان عارفاً بالحقائق عالماً بها، ثم تجاهلها
بالانشغال عنها يكون غافلاً.
وتزكية هذا القلب بتذكر الحقائق التي يعلَمُها، سواء تذكرها
صاحب القلب من خلال القرآن أو التفكر أو الذكر، أو ذكره بها غيره بالتذكير
والموعظة.
قال تعالى: ﴿
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد:16]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن
بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة:
74].
وأصحاب القلوب القاسية والمريضة يجد الشيطان إلى قلوبهم منفذاً ليزيدهم بعداً وضلالاً وفتنة، قال تعالى: ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج: 53]. |
تزكية القلب بالتذكير والمواعظ والتفكر والاعتبار، ولقسوته قد يسمع المواعظ فلا يتعظ؛ فيحتاج إلى التخويف والترهيب |
وتزكية هذا القلب بالتذكير والمواعظ والتفكر والاعتبار،
ولقسوته قد يسمع المواعظ فلا يتعظ؛ فيحتاج إلى التخويف والترهيب وإلى
تَذَكُّرِ ما يثير في نفسه الخوف من الله وعذابه وعقابه، وقد لا يَخْرُج من
قسوته إلا بما يفاجئه من بلاء شديد أو مرض أو من شيء خارج عن إرادته يخرجه
عن شهواته ودنياه وعاداته قهراً.
وإذا كانت القسوة ناتجة عن الذنوب؛ فلا بد من الاستغفار وصدق التوبة من الذنب الذي سبب القسوة.
ـ فإذا تخلص الإنسان من هذه الأوصاف في قلبه ومن الأعمال التي
تسببها، يصير طاهراً من الكفر مؤهلاً لأوصاف السلامة، فأول أوصاف السلامة
الإيمان وانتفاء ما ينقضه، ثم ينبني على ذلك أوصاف كثيرة كالإخلاص لله
والتوكل عليه والشكر له والخوف منه، وغير ذلك.
قال تعالى: ﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ
بقلب سليم ﴾، والآية تشعر أنه لا بد حتى ينجو الإنسان أن يكون قد حصل درجة
السلامة، فهي أدنى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان والمسلم.
وتزكية هذا القلب: بالثبات على سلامته والعمل وفق وجهته،
وبترقيته بالتعمق في التحقق بدقائق أوصاف القلوب السليمة ومقاماته العالية
وأعماله وآدابه الدقيقة.
ـ ثم يترقى القلب في صفاتٍ مِنْ صفاتِ السلامة كصفة الإخبات والاطمئنان وغير ذلك:
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].
وتزكية هذا القلب: بالثبات على الإيمان، فيكون مستأهلاً لمزيد الهداية، كما بينت الآية.
قال تعالى: ﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا
بذكر الله تطمئن القلوب﴾، وقال تعالى ذاكراً قول إبراهيم في سبب طلبِه
رؤيةَ إحياء الموتى: ﴿ ولكن ليطمئن قلبي ﴾.
وتزكيته بالمحافظة على طمأنينته بالثبات على أعمال الشرع ودوام الركون إلى الله والاعتماد عليه.
([1]) أي اختلاط.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
([4]) فقد وُصِفَت قلوبهم بأوصاف مختلفة كما في هذا المطلب، فالقلوب موجودة.