1. في رحاب السورة الكريمة:في القرآن الكريم دروسٌ وعبر، تصلح لكلزمان ومكان لاستقامة حياة الإنسان، وتجعله يؤدي دور الخلافة على أكمل وجه، وأحسنحال، في غير إفراط ممجوج أو تفريط مخلٍّ، فالاستقامة الكاملة منبعها الكتاب الحكيم،والسعادة الحقَّة دستورها الكتاب المبين، وفي هذا يقول صاحب "الظلال" في مستهلتفسيره لهذه السورة: "إنَّ هذا الدين ليس دينَ مظاهر وطقوس، ولا تغني فيه مظاهرالعبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرُّد، مؤدية بسبب هذا الإخلاصإلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثَّل في سلوك تصلح به حياة الناس فيهذه الأرض وترقى".
ثبتٌ للنصالكريم:بسم الله الرحمن الرحيم: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ*الَّذِينَهُمْ يُرَاءُونَ*وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 1- 7].
الرؤية بين العينوالقلب:إن الرُّؤية تكون بالعين عندما تتعدَّى إلى مفعول واحد، وتكون بمعنىالعلم عندما تتعدَّى إلى مفعولين، يقال: رأى زيدًا عالِمًا، ورَأَى رأيًا ورُؤيةًوراءَةً، مثل "راعَةٍ"، والرأيُ في اللغة معروفٌ،وجمعه: أرآءٌ، وآراءٌ أيضًا مقلوب، ورَئيٌّ على فَعيل، ويقال أيضًا: به رَئِيٌّ منالجن؛ أي: مَسٌّ، ويقال: رأى في الفقه رَأْيًا، تقول للواحد المذكر: أَرأَيتَكَزيدًا ما حاله؟ بفتح التاء والكاف، وتقول في المؤنث: أَرَأَيْتَكِ زيدًا ما حالُهيا امرأة؟ فتفتح التاء على أَصل خطاب المذكر وتكسر الكاف؛ لأَنها قد صارت آخرَ مافي الكلمة والمُنْبِئَةَ عن الخطاب، فإن عدَّيْتَ الفاعل إلى المفعول في هذا البابصارت الكافُ مفعولةً، تقول: رأَيْتُني عالمًا بفلان، فإذا سألتَ عن هذا الشرط قلتَللرجل: أَرَأَيْتَكَ عالمًا بفلان؟ وللاثنين أَرأَيتُماكما عالمينِ بفلان؟ وللجمعأَرَأَيْتُمُوكُمْ؛ لأَن هذا في تأْويل أَرأَيتُم أَنْفُسَكم؟ وتقول للمرأَة: أَرأَيتِكِ عالمَة بفُلانٍ، بكسر التاء، وعلى هذا قياس هذينالبابين.
وروىالمنذري عن أَبي العباس قال: أَرأَيتَكَ زيدًا قائمًا؟ إذا اسْتَخْبَر عن زيد، تركالهمز، ويجوز الهمز، وإذا استخبر عن حال المخاطب، كان الهمز الاختيار، وجازتَرْكُه؛ كقولك: أَرَأَيتَكَ نَفْسَك؟ أَي: ما حالُك؟ ما أَمْرُك؟ ويجوز: أَرَيْتَكَ نَفْسَك؟ قال ابن برِّي: وإذا جاءت أَرأَيْتَكُما وأَرأَيْتَكُمْ بمعنى: أَخْبِرْني، كانت التاء موَحَّدة، فإن كانت بمعنى العِلْم، ثَنَّيْت وجَمَعْت،قُلْتَ: أَرأَيْتُماكُما خارِجَيْنِ؟ وأَرأَيْتُمُوكُمْ خارِجِينَ؟ وقد تكرَّر فيالحديث أَرأَيْتَكَ وأَرأيْتَكُمْ وأَرأَيْتَكما، وهي كلمة تقولها العرب عندالاستخبار بمعنى: أَخبِرْني وأَخْبِراني وأَخْبِرُوني، وتاؤُها مفتوحةأَبدًا.
ورجلرَءَّاءٌ: كَثيِرُ الرُّؤيَةِ؛ قال غيلان الرَّبَعي: كأَنَّها وقَدْ رَآهاالرَّءَّاء ويقال: رأَيتُه بعَيْني رُؤيَةً، ورأَيتُه رَأْيَ العينِ؛ أَي: حيث يقعالبصر عليه.
ويقال: من رأْيِ القَلْبِارْتَأَيْتُ.
وقال أَبو زيد: إذاأَمرْتَ مَنْ رأَيْتَ قلت: ارْأَ زيدًا، كأنَّكَ قلت: ارْعَ زيدًا، فإذا أَردتالتخفيف قلت: رَ زيدًا، فتسقط أَلف الوصل؛ لتحريك ما بعدها، قال: ومن تحقيق الهمزقولك: رأَيْت الرجل، فإذا أَردت التخفيف قلت: رأَيت الرجل، فحرَّكتَ الأَلف بغيرإشباع الهمز ولم تسقط الهمزة؛ لأَن ما قبلهامتحرك.
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَهلَ الجَنَّةِليَتَراءَونَ أَهلَ عِلِّيِّين كما تَرَوْنَ الكَوْكَب الدُّرِّيَّ في كَبِدِالسماء))؛ قال شمر: يتَراءَوْنَ؛ أَي: يتَفاعَلون؛ أَي: يَرَوْنَ، يَدُلُّ على ذلكقولُه: ((كما تَرَوْن)).
ومن هنا،وجدنابعض القُرَّاء قرأ الفعل الأول للسورة (أريت) بحذفالهمزة، وقال الزجاج: وهذا ليس بالاختيار؛ لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحويرى وأرى وترى، فأمَّا رأيت فليس يصح عن العرب فيها "ريت"، ولكن حرف الاستفهام لما كان في أول الكلام سهَّل إلغاءالهمزة، ونظيره.في حين قرأ ابن مسعود (أرأيتك) بزيادةحرف الخطاب كقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِيكَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62].
وعليه؛فقوله - تعالى -: {أَرَأَيْتَ}؛ معناه: هل عرفتَ الذي يكذببالجزاء مَن هو؟ فإن لم تعرفه: فهو الذي يَدُعُّاليتيم.
الدعُّ بين القرآن الكريمواللغة:جاء في قواميس اللغة العربية دَعَّه يَدُعُّه دَعًّا؛ بمعنى: دَفَعَه فيجَفْوة وقسوة، وقال ابن دريد: دَعَّه: دَفَعَه دَفْعًا عنِيفًا، وفيه معنى الغلظةوالشراسة في هذا السلوك الشائن.
وفي القرآنالمجيد: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2]؛ أَي: يَعْنُفُ به عُنْفًا دَفْعًا وانْتِهارًا، وفيه أيضًا: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]، وبذلك فسَّره أَبو عبيدة فقال: يُدْفَعُون دَفْعًا عَنِيفًا، وفي الحديث: ((اللهم دُعَّها إِلى النار دَعًّا))، وقال مجاهد: دَفْرًا في أَقْفِيَتِهم، وفيحديث الشعبي: أَنهم كانوا لا يُدَعُّون عنه ولا يُكْرَهُون؛ الدَّعُّ: الطردوالدَّفْعُ.
فهذا بيانٌ صريحٌ على أن القرآن الكريم يبرز المعنىالحقيقي للدعِّ،مع ربطه بالفاعل والمفعول به؛ لتبيان مدى قساوة صاحب هذاالسلوك، فيجازى يوم القيامة بنفس العمل؛ {يَوْمَ يُدَعُّونَإِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}، فيصبح الفاعل مفعولاً به، والملائكة هي التيتدعُّه دعًّا.
ضروب الحضِّ في القرآن الكريمواللغة:الحَضُّ: ضرْبٌ من الحثِّ في السَّير والسَّوقوكل شيء، والحَضُّ أَيضًا: أَن تَحُثَّه على شيءٍ لا سير فيه ولا سَوْق، حَضَّهيَحُضُّه حَضًّا وحَضَّضَه وهم يَتَحاضُّون، والاسم الحُضُّ والحِضِّيضَىكالحِثِّيثَى؛ ومنه الحديث: ((فأَين الحِضِّيضَى؟))، والحُضِّيضَى أَيضًا، والكسرأَعلى، ولم يأْتِ على فُعِّيلَى بالضم غيرُها، قال ابن دريد: الحَضُّ والحُضُّلغتان كالضَّعْف والضُّعْف، قال: والصحيح ما بدأْنا به أَن الحَضَّ المصدر والحُضُّالاسم.
الأَزهري:الحَضُّ: الحَثُّ على الخير، ويقال: حَضَّضْت القومعلى القتال تَحْضِيضًا إِذا حَرَّضْتهم ودعوتهم إليه دعاء فيه حرصٌ وتشديدٌ، وفيالحديث ذكر الحَض على الشيء جاء في غير موضع، وحَضَّضَه؛ أَي: حَرَّضه،والمُحاضَّة: أَن يَحُثَّ كلُّ واحد منهما صاحبَه.
والتحاضُّ: التحاثُّ، وقُرِئ: ولا تَحاضُّون على طعام المِسْكِين؛ قرأَها عاصم والأَعمشبالأَلف وفتح التاء، وقرأَ أهل المدينة: ولا تَحُضُّون، وقرأَ الحسن: ولاتَحُضُّون، وقرأ بعضهم: ولا تُحاضُّون، برفع التاء؛ قال الفرَّاء: وكلٌّ صوابٌ،فمَن قرأَ تُحاضُّون فمعناه: تُحافِظون، ومن قرأَ تَحاضُّون فمعناه: يَحُضُّ بعضُكمبعضًا، ومَن قرأَ تَحُضُّون فمعناه: تأْمرون بإِطعامه، وكذلك يحُضُّون، ابن الفرج: يقال احْتَضَضْتُ نفسي لفلان، وابْتَضَضْتُها إِذااسْتَزَدْتها.
حوصلة:يدفع الكافر بالدين في مكان لا يجب فيهالدفع بل يحرم ههنا، وينتهي عن الدفع في حال يجب فيها الدفع لوجود المصلحة العظمىالمتمثِّلة في انتقال الخير إلى غيره، فكأن المكذِّب بيوم القيامة انتكست عندهالفطرة، وانقلبت موازين القيم رأسًا على عقب.
وعلى هذا؛فإن "حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان، إنما هي تحوُّلٌ في القلب يدفعه إلىالخير والبرِّ بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية، والله لا يريدمن الناس كلمات، إنما يريد منهم معها أعمالاً تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لهاعنده ولا اعتبار"[1].
سر اتصال السابق باللاحق:أجمعالمفسرون - في العموم - على أن الآيات الثلاث الأُوَل مكية، والآيات الأربعالمتبقية من السورة مدنية؛ لأنها تشمل خصائص الآي المدني،فماهو سرُّ ارتباط المكي و المدني في هذه السورة؟وفي ذلك وجوهٌ؛أوَّلها: أن هذه السورة عيِّنة على تكامل القرآن الكريم تكاملاً عجيبًا، لايدعو إلى الشك أو الرَّيب، وفيه دحضٌ لأقوال المستشرقين الذين يقولون بتعدد القرآنالكريم، وعليه فالقرآن الحكيم كلٌّ متكامل.
وثانيها: من حيثاللفظُ:فقد تماسك النصُّ المقدس في هذه السورة بواسطة حرف العطف الفاء،الذي أمسك الآي المكي والآي المدني، وجمع بينهما جمعًا فيه إعجازٌ، ومن حيث المعنىفبيانه: أن إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحضِّ تقصير فيما يرجع إلى الشَّفَقةعلى خلق الله، وسهوه في الصلاة تقصيرٌ فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله، فلمَّا وقعالتقصير في الأمرين فقد كمُلت شقاوته، فلهذا قال: {فَوَيْلٌ} وهذا اللفظ إنَّما يستعمل عند الجريمة الشديدةكقوله: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} [المطففين: 1]، {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، ويروىأن كلَّ أحد ينوح في النار بحسب جريمته، فقائل يقول: ويلي من حبِّ الشرف! وآخريقول: ويلي من الحميَّة الجاهلية! وآخر يقول: ويلي من صلاتي!